تعلّمنا منذ نشأتنا ، أنّ العالم الّذي فتحنا أعيننا عليه ، يسير وفق قواعد معيّنة حدّدتها سلفا ً سنن البقاء ، كسائر غيرنا من المخلوقات ، و أنّ البشر يتدافعون و يتنافسون لما فيه صلاحهم ، إمّا فرادى أو كمجتمعات تكوّنت لأسباب جغرافيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة ، و اعتمد النّاس على وسائل عدّة لتنظيم حياتهم ، كالتّشريعات و القوانين و من ضمنها الدّين ، كما عملوا على تحسين ظروفهم المعيشيّة و الأمنيّة في البيئة من خلال مختلف الوسائل التّقنيّة و العلوم التّطبيقيّة و النّظريّة .
و كما ذكرت في مقالي بعنوان " الدّين : ديماغوجيّة الآلهة " ، فقد دفع التّنافس مختلف التّجمّعات البشريّة إمّا إلى الاستفادة من بعضها البعض ، أو للمواجهة ، و كان لهذه الأخيرة سلبيّاتها ، فزيادة على الدّمار و التّقاتل و الضّرر المباشر النّاشئ عن الاصطدام العنيف بين الثّقافات ، جعلت النّاس "يتخندقون" مع وجهائهم و حكّامهم ، و يتمسّكون و يحتمون برصيدهم الحضاري "المهدّد" من قبل منافسيهم ، و هذا ما يؤدّي إلى ركود عجلة التقدّم و الحضارة ، و هو من أسباب انحطاط أمم و أفول نجمها ، و ظهور حضارات في مجتمعات ورثت و تقبّلت إرث غيرها ، و استفادت منه أو بجزء منه في تحسين ظروفها في المجالات كافّة. فاليابان مثلا ً ، تخلّت عن انغلاقها و تقبّلت بانفتاح التّعامل مع الأوروبيّين ، و استفادت من علومهم و أفكارهم ، و تأثّرت بالثّورة الصّناعيّة الأوروبيّة ، بينما أدّى استكبار المسلمين على الأوروبيّين "الكفّار" و تفاديهم التّشبّه بهم ، إلى تقهقر مكانتهم الحضاريّة ، بسبب تأثير الدّين الدّاعي إلى المواجهة مع غير المسلمين ، و تمسّكوا بما هم على يقين أنّه ناصرهم – أي الدّين – إلى أن أصبحت الشّعوب المحسوبة على الإسلام ، ألعوبة في يد القوى الاستعمارية الّتي قطعت أشواطا ً في مجالات من العلوم و التّكنولوجيا.
و تجرّعت الشّعوب العربيّة و الإسلاميّة ويلات الإستعمار و الإستغلال ، و ألفت التّفوّق الدّنيوي للكافر ، و اطمأنّت ضمنيّا ً لاختلافها عنه " بإيمانها " ، باستثناء فئة مفكّرة نظرت بواقعيّة إلى الأمور ، و علمت أنّ أسباب تفوّق "الكافر" هي "كفره" ، لا أقول بالله ، و إنّما نكرانه لرجعيّة و تخلّف الدّين (حتّى أنّ المتنوّرين – إيلّوميناتي – حسبوا على الشّيطان إبّان الحكم الكنسي في أوروبّا) ، و قام روّاد الفكر المعاصر بإنعاش الحياة الثّقافيّة و الفكريّة في المجتمعات العربيّة و الإسلاميّة ، ممّا أدّى إلى انفتاح كثير من الشّباب على الأفكار المعاصرة ، و شكّلوا جيلا ً ثوريّا ً لا يؤمن بالمستحيل و لا يستكين إلى ضعفه ، و لا يرى في استنباطه من علوم و أفكار و ثقافات غيره عيبا ً و تبعيّة ، و هؤلاء ، و ليس الإسلاميّين ، هم من أعطوا شكلا ً عصريّا ً لبلدانهم ، و الأمثلة على ذلك عديدة.
و مع ذلك فقد استمرّ الإسلاميّون في ادّعاءاتهم بأنّ سبب تحرّر الشّعوب هو تمسّكها بالدّين ، و لا انفي أن يكون الدّين سببا ً إضافيّا ً كما لم أنف يوما ً أنّ الإيمان بالله – من حيث المبدأ- لا يضرّ أحدا ً بل بالعكس قد يكون سببا ً في الإستمرار و فعل الخير ، و لكن ما يؤكّده المتطرّفون ، أنّ السّبب ليس الإيمان بالله وحده ، و إنّما هو أحكام الدّين و قرآنه و أحاديث محمّد ، و هذا خطأ ، فمثلا ً كثيرون ممّن انخرطوا في صفوف المجاهدين في الجزائر(خلال ثورة 1954-1962) لم يكونوا عارفين بأمور الدّين ، و مع ذلك فقد آمنوا بأنّ
زملاؤهم الّذين سقطوا في المعارك "شهداء" أي أنّ الله سيجازيهم خيرا ً .
زملاؤهم الّذين سقطوا في المعارك "شهداء" أي أنّ الله سيجازيهم خيرا ً .
و استمرّ سماسرة الدّين في محاولات استغلال المجتمعات العربيّة الإسلاميّة ، يساعدهم في ذلك الاستقرار النّسبي الّذي عرفته المنطقة العربيّة ، فقد استثمروا في فساد المسؤولين ، و الهزائم العسكريّة ، و عملوا دائما ً على تذكير شعوبهم بمنجزات العرب المسلمين و علمائهم في القرون الوسطى ، مع أنّ أغلب الفلاسفة و العلماء و الأطبّاء العرب كانوا أساسا ً من الملحدين ، و كلّما فشلوا في تحقيق شيء من مشروعهم ، زادوا إصرارا ً على المضيّ قدما ً تحت مسمّى " الصّحوة الإسلاميّة " ، و فضحهم الله في مواقع كثيرة ، فقد عاثوا فسادا ً في السّودان و فرّقوا بين أهله و ظلموا و احتقروا أصحاب الدّيانات الأخرى ، و خسروا في نهاية الأمر جزءا ً من تراب البلد . و في الجزائر ، حاولوا إقامة حكم إسلامي ، و بدؤوا بمنع عرض الأفلام في دور السّينما و فرضوا رقابة على المسارح ، و حاولوا تغيير نظام الحكم في البلد (من سيّء إلى أسوأ) باستغلال الدّيمقراطيّة و الانتخاب ،ضرفيّا ً ، فهم لا يؤمنون لا بالدّيمقراطيّة و لا بالحريّة ، و لكن اصطدموا في نهاية الأمر بطرف آخر لا يؤمن هو الآخر لا بالدّيمقراطيّة و لا بالحريّة(الجيش) ، و تمّ إيقافهم عند حدّهم – سياسيّا ً – و هو ما اتّخذوه ذريعة ً لإعلان الجهاد تطبيقا ً لمختلف الأحاديث و الآيات القرآنيّة ، و تسبّبوا في مقتل مئات الآلاف من المواطنين الجزائريين ، و لكم أن تقرؤوا عن أفعالهم المستمدّة مباشرة ً من "الكتاب و السّنّة " ، حتّى تأخذوا فكرة ً و لو بسيطة ً عن صورة الدّولة الدّينيّة الّتي يصبوا الإسلاميّون إلى إقامتها.
و زيادة ً على أهميّة "الإنذار" الّذي قدّمته التّجربة الإسلاميّة في الجزائر ، فقد عمل الانفتاح على وسائل الإعلام الجديدة على كشف الكثير من الحقائق ، و لم يعد الشّباب العربيّ ضحيّة الوجهة الّتي يريدها من يدّعون معرفة مصالحه ، فقد نشؤوا على الإنفتاح الثّقافي ، و الّذي لا يعني بالضّرورة – بالنّسبة للكثيرين منهم- التّخلي عن ثقافته كلّيّا ً ، و تراجعت الشّعارات الإسلاميّة أمام شباب همّه أن يكون جزءا ً من العالم و الإنسانيّة ، لا أن يعتبر الشّعوب الغير مسلمة " أمما ً كافرة ً عدوّة الله و الإسلام ..."
و أحرج الله الإسلاميّين مرّة أخرى ، في بلدين عربيّين ، ثار شعباهما على السّلطة ، و لم يكن للإسلاميّين دور بارز أو حتّى ثانويّ ، و لم يبد الشّباب الثّائر اهتماما ً بأصنام الشّعارات الإسلاميّة البالية ، و كان تحرّكه ذا طابع اجتماعي ّ سياسيّ ثوري بحت ، و شرعيّة مطالبه جعلت ثورته مخلصة ً لا نفاق فيها ، على عكس الإسلاميّين ، الّذي يمتطون الدّيمقراطيّة و هم لا يؤمنون بها و يستغلّون وسائل الإعلام بما فيها من " صور" محرّمة(بالنّسبة لهم) ، و تبرّج المذيعات ..الخ فقط لبلوغ السّلطة و التّنكيد على النّاس.
و قد يحاول الإسلاميّون مرّة ً أخرى زجّ أنفسهم في ما لا يعنيهم ، و استغلال مكاسب الشّعوب لصالح مشاريعهم الدّينيّة ، و هذا ما احذّر منه – شخصيّا ً – فهم انتهازيّون ، و لا يقيمون وزنا ً و لا قدرا ً لمن لم يكن على "ملّتهم و شاكلتهم"، و هم مقتنعون أنّهم غير ملزمين بالصّدق في التّعامل مع الآخرين ، فهدفهم الإسلاميّ التّطرّفي يجيز لهم كلّ أنواع المكر و النّفاق للوصول إلى الهدف .
و لكن ، تجدر الإشارة إلى أنّ ثورة شباب "الفايسبوك" في مصر – أكبر دولة عربيّة – قد أصابت المتطرّفين الإسلاميين في مقتل و هم أدرى النّاس بذلك ، و هو ما قد يجبر الكثيرين منهم على ترك أفكار قد أكل الدّهر عليها و شرب !
كما يتوجّب على التونسيّين ، الحفاظ على مكاسب النّظام السّابق و قطع الطّريق أمام زنادقة الدّين الذين أضرّهم حكم بورقيبة و بن علي لما أعطاه للنّساء من حقوق ، و هو ما كان يعدّ من مفاخر الشّعب التّونسي.
و حطّم الشّباب أصنام الشعارات الإسلاميّة كما حطّم إبراهيم آلهة المشركين الطّينيّة ، و كفى الله المؤمنين ردّ شرّ المتطرّفين الإسلاميّين بأن أسكتهم و أظهر لهم مكانتهم الحقيقيّة على تخوم المجتمع و الحياة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire